أخي أبو أسامة المهاجر حفظه الله
لا بد من تنويه أن للمعصية أيضا لذة لكن
-لذة المعصية..موقوتة بزمانها..ولذة الطاعة لنكهتها في الأفواه الزكية ديمومة..
-لذة المعصية..يعقبها ضيق في الصدر..لا يستراح منه إلا بهروب لمعصية أخرى..أو بالنوم..
وقالت العامة:نوم الظالمين عبادة!..ولذة الطاعة..يعقبها طمأنينة القلب واستراحة النفس وتحليق الروح
-لذة المعصية..هي في الأصل مرة على الفطر السليمة..لكن إبليس لذذها..فهي أشبه بالمخدر..
والمخدر ليس علاجا..ولا دواء..ولا شفاء
-لذة المعصية..طمعها لاذع..مع نكتة في القلب سوداء تورثها..ولذة الطاعة طعمها حلو..مع زيادة طهر في القلب
ومن يلذع لسانه كثيرا يوشك أن يهتريء فلا يحس ..ومن يحلّي لسانه على الدوام..فلن يحلو فيه إلا ما كان حلوا
قال عميد الأدب العربي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله - عن نفسه -
فكرت في ما كنت أكابده من ألم الطاعة فإذا الألم قد ذهب وبقي الثواب ونظرت في ما استمتعت به من لذة المعصية فإذا هو قد ذهب وبقي الحساب فندمت على كل لحظة لم أجعلها في طاعة .
روى الإمام البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه- كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم - أو تنتفخ - قدماه، فقيل له: يارسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنب؛ وما تأخر؟ فقال: >أفلا أكون عبداً شكوراً<.
وفي البخاري أيضاً عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء، قلنا: وما هممت؟ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه: >صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المئة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذ مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه< -رواه مسلم-.
هذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدق ابن رواحة رضي الله عنه حين قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وجاء في كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي: عن سفيان بن عيينة قال: كان قيس بن مسلم يصلي حتى السحر، ثم يجلس فيهيج البكاء فيبكي ساعة بعد ساعة ويقول: لأمر ما خلقنا، لأمر ما خلقنا، وإن لم نأت الآخرة بخير لنهلكن.
وزار يوماً محمد بن جحادة فأتاه في المسجد فوجده يصلي، فقام قيس في الجانب الآخر يصلي دون أن يشعر به ابن جحادة.. فمازالا يصليان حتى طلع الفجر.
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي: كان عبدالعزيز بن أبي رواد يوضع له الفراش لينام، فيضع عليه يده ويقول: ما ألينك، ولكن فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم فيصلي.
وعن معادة العدوية زوجة صلة بن أشيم، قالت: كان صلة بن أشيم يقوم الليل حتى يفتر فما يجيء إلى فراشه إلا حبواً، إنها لذة الطاعة..
إن كل هذا الذي سقناه من كثرة الصلاة وطول القيام فيها، وصبر النفس على تحمل مشاق البدن ليدل على أن هناك شيئاً يحمل المتعبدين على الإقبال على عبادتهم من غير ملل، والوقوف فيها من غير نظر إلى تعب أو كلل.. وهذا الشيء لاشك ينسي النفس همومها، ويورث القلب تعلقاً يشغله به عن الإحساس بالتعب، أو حتى الالتفات إلى تورم القدم، ثم تفطرها وتشققها من طول الوقوف.. إنها لذة الطاعة.. وحلاوة المناجاة.. وأنس الخلوة بالله.. وسعادة العيش في مرضاة الله.. حيث يجد العبد في نفسه سكينة، وفي قلبه طمأنينة، وفي روحه خفة وسعادة، مما يورثه لذة لا يساويها شيء من لذائذ الحياة ومتعها، فتفيض على النفوس والقلوب محبة للعبادة وفرحاً بها، وطرباً.
أما طرق تحصيل العبادة فكثيرة لا تزال تزداد حتى تملأ شغاف القلب، فلا يرى العبد قرة عينه وراحة نفسه وقلبه إلا فيها، كما قال سيد المتعبدين صلى الله عليه وسلم : >حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء.. وجعلت قرة عيني في الصلاة< أي منتهى سعادته صلى الله عليه وسلم وغاية لذته في تلك العبادة التي يجد فيها راحة النفس واطمئنان القلب، فيفزع إليها إذا حزبه أمر أو أصابه ضيق أو أرهقه عمل، وينادي على بلال: >أرحنا بها.. أرحنا بها<.
وهذا النوع من لذائذ القلوب والنفوس ذاقه السالكون درب نبيهم والسائرون على هديه وسننه، فجاهدوا أنفسهم وثابروا معها وصابروها في ميدان الطاعة حتى ذاقوا حلاوتها، فلما ذاقوها طلبوا منها المزيد بزيادة الطاعة، فكلما ازدادت عبادتهم زادت لذتهم فاجتهدوا في العبادة ليزدادوا لذة إلى لذتهم.. فمن سلك سبيلهم ذاق، ومن ذاق عرف.
أولها: مجاهدة النفس
وتعويدها العبادة والتدرج فيها، ولابد من الصبر في البدايات على تعب العبادات وحمل النفس عليها تارة وتشويقها إليها أخرى حتى تذوق حلاوتها، فالتعب إنما يكون في البداية، ثم تأتي اللذة بعد كما قال ابن القيم: السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده، فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق، فصارت قرة عين له وقوة ولذة.
وقال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة.
وقال بعضهم: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، فمازالت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك، والأمر كما قال ربنا تعالى: -والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين- >العنكبوت: 69<.
ثانيها: الإكثار من النوافل
بكل أنواعها، وعلى اختلاف صفاتها وأحوالها، والتنويع فيها حتى لا تمل النفس، وحتى تقبل ولا تدبر، فتارة نوافل الصلاة، وتارة نافل الصوم، والصدقة، والبر والصلة، فإن كثرة النوافل تورث محبة الملك سبحانه كما في الحديث القدسي: >ومايزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه
<.
ثالثها: صحبة المجتهدين وترك البطالين
فمن بركة صحبة أهل الصلاح: الاقتداء بهم، والتأسي بحالهم، والانتفاع بكلامهم، والنظر إليهم، قال جعفر بن سليمان كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت، فنظرت إلى وجه محمد بن واسع كأنه وجه ثكلى -وهي التي فقدت ولدها-.
وكان ابن المبارك يقول: كنت إذا نظرت إلى وجه الفضيل بن عياض احتقرت نفسي.. وقد قالوا قديما من لم ينفعك لحظة لم ينفعك لفظه.
رابعها: تدبر القرآن
خصوصاً ما يتلى في الصلوات، فإن في القرآن شفاء للقلوب من أمراضها، وجلاء لها من صدئها وترقيقاً لما أصابها من قسوة، وتذكيراً لما اعتراها من غفلة مع ما فيه من وعد ووعيد وتخويف وتهديد وبيان أحوال الخلق بطريقيهم أهل الجنة وأهل السعير، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عظمة الموقف، ثم يورثه أنس قلبه بمناجاة ربه، ولوجد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان.
وفي الحديث القدسي عند مسلم: >قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي -وقال مرة: فوض إلي عبدي- فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل<.. فهذا مثال وعلى مثلها فجاهد.
خامسها: الإكثار من الخلوة بالله تعالى
فيتخير العبد أوقاتاً تناسبه في ليلة أو نهاره، يخلو فيها بربه، ويبتعد فيها عن ضجيج الحياة وصخبها، يناجي فيها ربه، يبث له شكواه، وينقل إليه نجواه، ويتوسل فيها إلى سيده ومولاه، فلله كم لهذه الخلوات من آثار على النفوس، وتجليات على القلوب؟!
وقد قيل لبعض الصالحين لما أكثر الخلوة: ألا تستوحش؟ قال: وهل يستوحش مع الله أحد؟! وقال آخر: كيف استوحش وهو يقول: وأنا معه إذا ذكرني؟!
قال بعض السلف: إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به.
وكان ثابت البناني يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحداً الصلاة في قبره فاعطني الصلاة في قبري.
وقال سفيان الثوري: إني لأفرح بالليل إذا جاء، وإذا جاء النهار حزنت.
ولقد بلغت لذة العبادة وحلاوتها ببعض ذائقيها إن قال من شدة سروره: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه - يعني من النعيم - لجالدونا عليه بالسيوف.
وقال آخر مبدياً حزنه وتأسفه على الذين لم يشهدوا هذا المشهد: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.. قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله معرفته وذكره.
- وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
إنها الجنة التي لما دخلها الداراني قال: إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.. وإنه لتأتي على القلب أوقات يرقص فيها طرباً من ذكر الله فأقول: لو أن أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
إنها الجنة التي تنسي صاحبها هموم الحياة ومشاقها، بل تنسيه تعب العبادة ونصبها، وكلل الأبدان وملالها، بل وتنسيه الجوع والظمأ، فتغنيه عن الطعام وتعوضه عن الشراب، فهو بها شبعان، كما في حديث نهي النبيصلى الله عليه وسلم عن الوصال، فقيل له: إنك تواصل، قال: >إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني< -رواه البخاري ومسلم-.
يطعمه اللذة والأنس والبهجة، كما قال ابن القيم: المراد مايغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، وتنعمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب بما هو أعظم غذاء وأجوده وأنفعه، وقد يقوى هذا الغذاء حتى يغني عن غذاء الأجسام مدة من الزمان.
وبلوغ ما بلغه السلف في هذا الباب يحتاج إلى بذل أسباب بذلوها وسلوك سبيل سلكوها:
فليتك تحلو والحياة مريرة
وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التراب تراب
سادسها: ترك المعاصي والذنوب
فكم من شهوة ساعة أورثت ذلا طويلاً وكم من ذنب حرم قياس الليل سنين، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، ويكفي هنا قول وهيب ابن الورد حين سئل: أيجد لذة الطاعة من يعضي؟ قال: لا.. ولا من هم.
فأعظم عقوبات المعاصي حرمان لذة الطاعات وإن غفل عنها المرء لقلة بصيرته وضعف إيمانه أو لفساد قلبه.. قال ابن الجوزي: قال بعض أحبار بني إسرائيل: يارب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، إليس قد حرمتك حلاوة مناجاته .
أسال الله ان ينفعني وإياك والمسلمين
لا تنسانا من صالح دعائك