بسم الله الرحمن الرحيم
17/5/2008
رحلة طارئة إلى مخيم العروب في ستينية النكبة
علاء الطيطي – مخيم العروب
كنت مسافرا بين مدن جنوب الضفة المحتلة متجها بسيارتي من مدينة خليل الرحمن وقراها الوادعه الى مدينة مهد المسيح
... والمسافر بين هاتين المدينتين يجد نفسه يتنزه بحقول خضراء تجعله مرتاحا طوال الطريق
فجأة يجد أشجار السرو عن شماله تحيط بمكان وتغطي بظلالها طول الطريق وخاصة في وقت الغروب ... وأشعة الشمس تسترق بين الأغصان دفئا لتصل بأمان إلى الجهة المقابلة...
فجأة لمرة أخرى ... منظر غريب .. معقد.. عجيب...مئات من البيوت الرمادية المتكدسة فوق بعضها البعض...وعلى البوابة الرئيسية يوجد دبابة صهيونية وبرج مراقبة وجدار شائك ولوحة خضراء مكتوب عليها العروب... لطالما سمعت كثيرا عن العروب ... المخيم .. الشهداء.. الأسرى ....المواجهات وحينما وجدت الجدار الشائك جزمت تفكيري أن الاحتلال المتواجد والجدار الشائك هو سبب المواجهة والرفض
...مخيم العروب.... لون رمادي يجعلني انقلب بتفكيري ومزاجي ...إلا أن المنظر دعاني للتفكير... دعاني للانقلاب بفكري...هاجس داخلي قال لي ادخل هذا المكان...
....جعلني أغوص بسيارتي ومترجلا على قدماي هذا التجمع السكاني لعلي أنال بقصة هنا أو هناك..وربما أريد التعرف على الحكاية من بدايتها ...
مذ أن دخلت شارع المخيم الرئيس وجدت أمامي مئذنة مسجد شامخة دعتني إلى الارتياح ..مررت بالشارع الرئيس أترقب .. انظر ...علني أجد شخصا اعرفه أو ربما اعرف تفاصيل دقيقة في الحياة هنا في هذا المخيم...
طرحت السلام عن يمين وعن شمال وهذا يرفع يده يلوح لك بالتحية وآخر مبتسما وذاك يائس وهذا غاضب ربما من هذا اللون الرمادي...
الغريب في الأمر وأنا انظر عن يميني في السيارة وجدت طرقا ضيقة عرفت فيما بعد اسمها زقاق المخيم ...هذا غير موجود في المدن والأحياء الراقية ولا حتى في القرى
جعلتني أوقف تشغيل سيارتي وانزل متمشيا ومترجلا ...تلقي على هذا التحية وذاك يلقيها عليك
جميل هذا الشعور وكأننا من أبناء حي واحد..لما لا فنحن فلسطينيون..فليس غريبا هذا....
مجموعة من كهول السن يجلسون في حي ضيق ويتصايحون وعندما اقتربت وطرحت السلام وجدتهم وكأنهم يتهامسون ...طلبوا مني الجلوس لاحتساء فنجان قهوة عربية أصيلة" القهوة السادة ""من وين انت يا ابني..." قالها احدهم ..أجبتهم باني صحفي وأريد معرفة الحقيقة لهذا المخيم...دخلنا بيت احدهم وجلسنا على الفراش العربي البسيط والمتواضع ...جميل جدا هذا البيت ...مطرزات معلقة هنا وهناك تزين جدران الغرفة ...والفراش مغطى بنسيج صوفي قالوا لي فيما بعد "هذا من ريحة عراق المنشية ..."احدهم بدأ يحضر بالقهوة السادة على المحماس ...لم أتذوق قبلها قهوة بهذا الطعم .. ترى وتشهد عملية تحميسها وغليها وتشرب..شعور جميل...
وأنا أترقب صنع القهوة والذي استمر لساعة تقريبا وأنا استمع لحديثهم الشيق.....
"في عراق المنشية كنا نفلح الأرض ..ونرعى الدواب..كانت الحياة بسيطة وجميلة جدا والله وكنا مرتاحين ...ولا في هّم يهود ولا هّم قرود ..."هكذا تحدث الحاج يوسف محي الدين عن قريته عراق المنشية وما أن تحدث حتى انطلق ثلاثتهم الحاج يوسف محي الدين والحاج أبو كمال أبو زغاريت والحاج احمد موسى بحديث شيق وذكريات في الزمن الغابر...وأصبحت على الهامش اسمع وأترقب حديثهم الشيق... أعجبتني لغة الحديث وأعجبني قصة الحكاية لعراق المنشية ...
تحدثوا عن قرية عراق المنشية غرب الخليل على الحدود مع غزة والتي كانت تتبع قضائيا لمدينة غزة وتذكروا كل شيء فيها ..حتى الأسماء للمخاتير وقصص كثيرة لم استطع كتابتها وأنا مندهش لذاكرتهم الحية .واحتسي القهوة برفقتهم .....
"والله يا بني هجرنا بالقوة من عراق المنشية عام 48 وطلعنا منها وإحنا كل فكرنا انو راح نرجع مثل ما حكا إلنا الجيش المصري.."كان حديث احدهم ..وقصة حصار الجيش المصري لم تغب عن الأذهان فتحاكوها وقصوها وكأنني أشاهد فيما سينمائيا عنها ...حصار استمر لستة أشهر للجيش المصري في قريبتي عراق المنشية و الفالوجة وقالوا لي عن الأكذوبة العربية والتي هدم فيها الجيش المصري بيوتهم وترحيلهم في سيارت وشاحنات الوسيط الدولي...
مكثوا بعد الستة أشهر من الحصار قرابة ثلاثة أشهر اخرى على مداخل البلدة والقمح محفوظ بالأكياس والشتاء دخل عليهم ضيفا لتخضر الأكياس من القمح...
تحدثوا لي عن رحلة المعاناة وخروجهم المبكي من بلدتهم عراق المنشية ...وانتقالهم إلى إذنا غرب الخليل ومجموعة أخرى لمنطقة برك سليمان في قرية الخضر ومن ثم انتقالهم إلى منطقة وادي الصقيع والمعروفة باسم العروب
تحدثوا عن الثلوج وهم في الخيام ...وكل القصص وأنا أترقب...
قلت لهم العروب ...قالوا ..بان المخيم يجتمع فيه أكثر من عشرة ألاف نسمة من أكثر من 30 قرية وبلدة تم تهجير أهلها عام ثمانية وأربعين ومعظم سكان المخيم من قرية عراق المشية التي تشكل النصف وابرز عائلاتها الجوابرة والطيطي والبدوي وأبو محيسن وأبو سل...وكذلك من قرى الدوايمة وزكريا الفالوجة وبيت جبرين والمسمية وعجور وعرب الوحيدات حتى تصل القائمة إلى أكثر من ثلاثين قرية وبلدة ...
مخيم العروب والمعاناة
وأنا أتجول استمع للحديث في جنبات زقاق المخيم أعجبني أملهم رغم الهّم المتواصل منذ ستين عاما ...وهذا يطالب وآخر يناشد وهذا يتوعد
المواطن جبر الطيطي 50 عاما ...قال "انظر للبيوت المتكدسة ...دون تهوية دون متنفس وبيوت متراصة ...وضع صعب للغاية ..لا مكان يلعب فيه الأطفال ... لا مساحة أمام البيوت لأخذ راحة ...الوضع هنا لا يطاق لكنا مصممون على البقاء أو العودة إلى ديارنا ..."
الحاج محمد الزكراوي ...نسبة إلى بلدته زكريا ...طالب المجتمع الدولي بوقف سياسة التقليص لخدمات وكالة الغوث.. وقال أن الوكالة مرهونة بوجود اللاجئين ما دام الحق غير مسترد ...وتحدث عن الخدمات التي تقلصها وكالة الغوث الدولية على صعيد المعيشة والخدمات الاعاشية والتي تتباعد فترتها من حين لآخر والرعاية الصحية التي تقلص حجم الدواء فيها ونوعيته وكذلك التعليم ...
ما أدهشني وأنا أتجول عبارات على جدران الشوارع تشكل جداريه تفنن بها فنان وكتب كل أسماء القرى وجدارية أخرى كتب عليها لاجئ منذ زمن ...وأخرى لن أتنازل عن حقي في العودة ...
طفل صغير اسمه محمد اعترضت عليه لعبته وقلت له هل أنت لاجئ.. ضحك مستهزءا ...وقال لي " لاجئ ابن لاجئ وكرت الوكالة بيشهد على إني لاجئ...قال ما دام وجودي بعيد عن قرية عجور فانا لاجئ...ولكن جدي حكالي القصة وما بنساها وراح احكيها لكل صحابي وبس اكبر راح ارجع لبلدي عجور...
فرغم الظروف الصعبة التي يعيشها سكان مخيم العروب إلا أنهم يأملون بالعودة إلى ديارهم ولن يسقطوا هذا الحق ...فنكبة الشعب الفلسطيني نكبة فردية جماعية ..
فقررت أكمال رحلتي لمدينة بيت لحم ..وأنا خارج من المخيم كانت أشعة الشمس التي تختبئ بين أغصان الأشجار السامقة على الجنب المقابل للمخيم ... تحكي قصة أمل بالعودة وقصة ثبات رغم محاولات تضييع الحق... وربما لن يطول الانتظار
بقلم الصحفي علاء الطيطي مراسل فضائية الاقصى [/size]